Friday, November 5, 2010

قرية دير المدينة بقلم البروفيسور كنت ويكس ترجمة سفير اللغة العربية أحمد صديق

في عهد الملك رعمسيس الثالث قام أحد الكتاب بعمل جرد للمنازل التي كانت فوق حافة الزراعة على الضفة الغربية، فقدم لنا هذا ملمحا أخّاذا لما كانت عليه الضفة الغربية قديما وكيف كان قاطنوها هناك، فمثلا نجد بين معبدين تذكاريين بنيا هنا منازل لعبد وامرأة ومحارب مرتزقة من سردينيا وكاهن ومن كان يستأجر هذا المحارب المرتزقة من سردينيا وراعي ماعز وصاحب مسكن وسائسا وفلاحا مستأجرا وجنديا." وكان هناك أيضا الناحتون والمحنطون ومسومو الماشية ومربو النحل والبحارة وكاتبو المحكمة والعديد من الأجانب ورجال البحر والليبيون والسوريون ومحاربو عربات تجر وربما كان هؤلاء من الحيثيين." ومثل القرى في صعيد مصر اليوم نجد الأدوات إلى جانب المنازل الكبيرة وكان الفلاحون الفقراء يعيشون بجوار كبار الموظفين وليس هناك من شاهد على تخطيط المدينة، ولكن على بعد كيلو متر إلى الجنوب الغربي تقع قرية أُحسن تخطيطها وأتقن إنشاؤها من الطين والحجر حيث كان يعيش أولئك النفر من الرجال المسؤولين عن شق وزخرفة قبور فراعنة مصر في الدولة الحديثة مع أسرهم. وقد كانت قرية صغيرة تسمى بالمصرية القديمة بادامي أي القرية أو "تا ست ماعت" أي مكان الحقيقة واليوم نعرفها باسمها العربي دير المدينة أي الدير الذي في المدينة وقد كانت دير المدينة لخمس مائة عام مجتمعا حيويا من مهندسي المعمار والبنائين والرسامين والفنيين والنجارين وصائغي الذهب وغيرهم من الحرفيين. وبعد أن هجرت بانتهاء الدولة الحديثة لم يأتِ هنا سوي نفر في معظم الأحيان قليل لزيارة معبد صغير في الجوار أو لاستخدام بعض مبانيها للتخزين. وفي العصر البطلمي شيد معبد لحتحور في شمال الموقع وتحول في ما بعد إلى كنيسة مسيحية ودير، ومن هنا جاء الاسم العربي. وشيئا فشيئا عرفناها بدير المدينة، ولقد اختفت قرية دير المدينة تحت الرمال الهبوب وظلت طي النسيان لحوالي ألفي عام ولم يدرك أحد قبل القرن التاسع عشر أن دير المدينة كانت موقعا غنيا بالآثار. وقد كشفت الحفريات من 1815 إلى الحرب العالمية الثانية والتي كان معظمها غير شرعي عن آلاف من القطع من دير المدينة لكن لا نجد سوى القليل منها مما يعد أعمالا فنية رائعة أو قطعا قيمة من الذهب والفضة. فالواقع أن معظمها من الحجر الجيري كتب عليها الكتاب الأقدمون مذكرات وتمرنوا على الكتابة. وهذه القطع من الحجر الجيري والمعروفة بالشقفة هي المقابل القديم لمجلة الحائط ومعظم نصوصها عالجت الأمور الدنيوية للحياة اليومية. وبالنسبه لعالم المصريات فهذه الوثائق كنوز أغلى من الياقوت والذهب، فهي تسمح لنا بزيارة عالم عمره ثلاثة آلاف عام من هؤلاء الفنيين، فنتصنت عليهم وهم يعملون ويلعبون، فهنا عقود زواج ورسائل وإيصالات وغراميات وشكاوى غاضبة وسجلات جرد وألف من الوثائق التى تصف بتفاصيل دقيقة ومملة حياة من عاشوا هنا وخلال أكثر تاريخها عاشت في دير المدينة. وقد ترواح عددهم من حوالي أربعين إلى أكثر من مائة (خمسون أسرة).
وفي بعض الحالات يمكننا تتبع تاريخ بيت لأسرة واحدة لعشرات الأجيال أو أكثر واليوم باستطاعتنا التعرف على سبعين بيتا كل منها مبني من الحجر والطوب اللبن في مجمع لبلدة مسورة تمتد حوالي 51000 متر مربع (53 ألف و500 قدم مربع) وكان لهذا المجمع مدخل واحد وكان الحرس يتناوبون عليه ولم يكن هذا لعزل العمال وانما لصون النفائس التى كانوا يعملون بها. وقد امتد كل بيت إلي حوالي سبعين مترا مربعا (750 قدما مربعا) وكان يتبع خطة قياسية بشكل كبير. ومن المميز بين هذه البيوت بيت العامل سنجم الذي عاش في عهد الملك سيتي الأول ورعمسيس الثاني، ويقع بيته في الركن الجنوبي الغربي من القرية على حافة ساحة الانتظار الحديثة على بعد أمتار قليلة أمام مجموعة من المدرجات التي تؤدي إلي مقبرته (م أ 1) ويقع مدخلها عند نهاية دهليز طويل موازٍ للطريق الرئيسي الممتد شمالا وجنوبا عبر القرية ويؤدي مدخل إلى مدخل صغير حيث نجد ثلاثة مخازن ربما كانت معدة للأدوات والقماش وغيره من حاجات الحياة، وربما استخدمت أيضا كمسكن للخدم وفي إحدي الغرف قدور مثبتة في الأرض لتخزين الحبوب إلي غربها باب متقن ذو عتبة حجرية يؤدي إلي قاعة استقبال مستطيلة عليها مصطبة من الطوب اللبن مستندة إلي الحائط الجنوبي، ووراء ذلك غرفة استقبال أخرى كان لها عمود من جذع النخل على قاعدة من الحجر الجيري في وسطه لتدعم السقف وقد اختفى الآن، وهناك مصطبة منخفضة كانت بمثابة سرير أو مقعد وفوقها لوحتان مثبتتان في الجدار ونعرف من المتاع الموضوع في مقبرة سنجم أن الأثاث هنا كان يشتمل على أدوات صغيرة و كرسي وسرر وصناديق وخزائن وموائد معظمها للاستخدام والانتفاع بها ولكنها جيدة الصنع ولطيفة الزخرف. وهناك مجموعة من الدرجات تؤدي إلى السقف وقد كانت الإقامة في دير المدينة قاسية ومتقشفة فالمنازل صغيرة، ولربما قضى سنجم وزوجته أيننفرتي وأبناؤهم وبناتهم العديدون وقتا كبيرا على السقف أو خارج المنزل يتسامرون مع أصدقائهم وزملائهم وهؤلاء القوم بالطبع عملوا معظم النهار ومن أجل ذلك فأكثر الوقت كانت القرية للنساء والأطفال وكبار السن. ومقارنة بمنازل أكثر المصريين قدمت دير المدينة الكثير من وسائل الراحة وعوامل الجذب فقد كانت جدران المنازل مدهونة بالأبيض ولها أبواب حمراء صغيرة أما الأرضيات فقد غُطيت بالملاط وقد زخرفت المنسوجات الملونة الزاهية والأثاث واللوحات وعلقت التمائم على الحوائط وفي ظهر المنزل كان يقع المطبخ وغرفة صغيرة وصومعة لتخزين الغذاء. لم يكن هناك مال في مصر القديمة فكانت الحكومة تدفع للعمال عينا لا نقدا، فكانت صومعة سنجم ومخازنه تتسع لهذه الأقساط الشهرية من الحبوب لعمل الخبز، والشعير لعمل الجعة، والسمك المجفف والخضروات مثل (الفول والثوم والبصل والخس) والفواكه مثل الرمان والعنب والتين، ووقود لفرن الخبز وماء وفي مناسبات خاصة كانت هناك سلال من البلح والكعك الحلو والعسل والنبيذ والتوابل والكمون والكراث والملح وزيوت الطبخ العديدة واللحم والطير وبعض هذه الأطعمة يأتي غير ناضج وآخر كان يأتي جاهزا وكان يأتي بكميات كبيرة ولدينا سجلات لأسرة كانت تتلقى قسطا يتضمن مئات عديدة من الخبز ولترات كثيرة من الجعة "البيرة" كما كانت تصل إلى هناك دفعات منتظمة من القماش والملابس والأثاث وأواني الطبخ والمصابيح. وقد وظّف قاطعوا الخشب و حاملو المياه والصيادون والبستانيون والغسالون وصانعوا الخزف والتوصيل بصورة دائمة لتلبية حاجات فناني وحرفيي دير المدينة. انظر إلى جدران بيت سنجم وانظر داخله حينئذٍ لا يكون من العسير تصور الأمسيات التى قضاها في هذه الغرف يلعب الألعاب مع أسرته ويحكي القصص أو يتزين لعيد من الأعياد. يستطيع المرء أن يتصوره وهو يجلس في قاعة العواميد يسمر مع زملائه في العمل وهو يتحدث عن جدول اليوم التالي. يستطيع المرء أن يراه وهو يمشي إلي المطبخ لإعداد تصبيرة من الخبز والتوابل ويصعد إلي السقف ويجلس بهدوء ويأكل تحت النجوم. وعندما كان يغادر سنجم البيت كل صباح للعمل في وادي الملوك كان هو وزملاؤه يمشون على التل على طول طريق لا يزال السياح يطرقونه إلى اليوم، وتأخذ الرحلة أقل من ساعة أما رحلة العودة فتستغرق وقتا أقل لأن معظمها طريق النازل، وإذا اختار العمال ألا يرجعوا إلى قريتهم عند نهاية اليوم فربما يكون راجعا إلى الحرّ أو إلى خلاف عائلي أو ضغوط العمل وحينئذ يكون قضاء الليل في الأكواخ الحجرية الصغيرة المبنية فوق التل، وهنا باستطاعة العمال أن يستمتعوا بنسيم الرياح عند الشمال ينحتون التمائم ويشربون الجعة السميكة التى حملها أزواجهم من القرية. لابد أن شق مقبرة ملكية لم يكن عملا يبعث على السرور. بصورة عامة، الحجر الجيري مادة طرية نسبيا وليس من الصعب نحتها ولكن عندما يتحطم فإن حوافه الحادة كالموسى تستطيع أن تقطع حتى الجلد السميك وينتج عنها غبار سميك يجعل التنفس والرؤية صعبة وقد كان الحفاظ على الاستواء المحوري الصحيح لغرف المقبرة وضمان أن تكون أركان الغرفة مربعة وأن تكون الجدران أفقية عملا يتطلب صبرا ومهارة ولكن الحرفيين أدوا هذا بإتقان بالغ حتى في هذه البيئة الصعبة، ولم يستخدموا في ذلك سوي ميزان ماء وقطع من الحبل ومربع النجار. أما قطْع الحجر الجيري فقد كان باستخدام إزميل من النحاس ومطارق خشبية وفؤوس يدوية من الصوّان ومسحج من الحجر الرملي ومثل هذه الأدوات البسيطة يمكن إصلاحها و سنها عند الحاجة، ورغم أنها بسيطة فقد أدت الواجب على خير وجه. كانت إضاءة جوانية المقبرة المظلمة باستخدام سلطانيات من زيت الخضروات كانت تطفو فيه فتيلة وتضاء وكانت الفتائل من سمك قياسي وطول قياسي وكان المعدل الذي تحترق به مقياسا ليوم العمل. وقد أضيف الملح إلى الزيت لمنعه من إصدار الدخان.
المعبد البطلمي
عند الطرف الشمالي للقرية بني عدد من المعابد الصغيرة في الدولة الحديثة وبعضها استبدل في عصر البطالمة. والواقع هناك مثال محفوظ حفظا جيدا لمعبد من ذلك العصر لا يزال قائما. وقد بدأ في عصر بطليموس الرابع فيلوميتر واستمر العمل فيه 60 عاما التالية تحت حكم بطليموس السادس وبطليموس الثامن فيلوميتر ارجيتس الثاني، وقد بني على أنقاض معابد صغيرة أخرى قبله ولعله مشبه للبقايا التى لا نزال نراها في الشمال مباشرة حيث معبد أمنحتب الأول ومقام حت-حوري لسيتي الأول. ومعبد الثالوث الأقصري بناه رمسيس الثاني كان المعبد البطلمي مكرسا للربة حت-حور وماعت وهو بناء صغير يقع داخل سور من الطوب اللبن داخل جدار محيط من الطوب اللبن داخله أيضا دور عبادة صغيرة من الدولة الحديثة شيدها قاطنوها من دير المدينة. وهناك العشرات من المخربشات اليونانية والديموطيقية والقبطية المسيحية تغطي جدرانه الخارجية وداخل السور المحيط ندخل دهليزا له عمودان على صورة البردي. وتقودنا مجموعة منخفضة من الدرجات إلى ما قبل الناووس كما يحدده زوجان من الأعمدة والجدران الستائرية. على الأعمدة صور تظهر أمنحتب ابن هابو وأمنحتب وهذان المهندسان المعماريان بلغا مرتبة الألوهية بعد وفاتهما. ولعل امنحتب ابن هابو قد بني معبدا من قبل على هذا الموقع. أما الجدار الستائري فهو مبطن بنقوش تظهر الملكة تقرب القرابين إلى الربات المختلفة. في الجدار الخلفي مما قبل الناووس ثلاثة مداخل وفوقها سبع أرؤس حت-حورية وكل من المداخل الثلاثة يؤدي إلى دور عبادة ضيقة طويلة ودار العبادة على اليسار مكرسة لآمون-سكر أوزوريس وعليها نقوش متقنة النحت موضوعها حساب الموتى. مناظر القيامة كهذه ليست شائعة في رسوم المعابد ونجدها أكثر في المقابر أو على لفائف البردي. أما أطراف صور النقش البطلمي فكثيرا ما تبدو كنقائق المحشو كثيرا، ولكن هذه منحوتة بصورة أكثر أناقة وهي حسنة التناسب والتصميم ونستطيع رؤية جنيين رؤسهم رؤس كلاب وصور لبطليموس الرابع في المدخل وعلى الجدار الأيسر تقود ماعت صورة للملك الميت إلى قاعة العدل وفوقه اثنان وأربعون قاضيا يجلسون مستعدين للنطق بالحكم الذي سيقرر مصيره. أنوبيس وحورس يزنان قلب الميت على ميزان وفي الكفة الأخرى ريشة ماعت ويقف تحوت برأس أبي منجل في الجوار مسجلا النتيجة. تجلس صورة على شكل أسد وفرس النهر وتمساح يسمى عامت إلى جانبهم مستعدة لافتراس قلب الظالم. إلى أقصى اليمين يجلس أوزوريس على عرشه. على الجدار الخلفي يقدم الملك بطليموس الرابع فيلوبيتر القرابين لإيزيس وأوزوريس. يقف قارب سوكر أزوريس على قاعدة وإلي يمينه يقدم بطليموس السادس إلى أنوبيس القرابين. ولما كان البطالمة شغوفين بالأحرف الهيروغليفية المصرية والوحدات الزخرفية الدينية فقد شعروا بالغبطة في أخذ العناصر الأيقونية المميزة البسيطة وجعلها معقدة فمثلا انظر إلى عتبة فوق الباب حين تغادر دار العبادة حيث صورت أربعة كباش وجعران برأس كبش ودار العبادة الوسطى كرسها بطليموس الرابع لحت-حور وهى تتلقى القرابين من بطليموس الرابع وأخته أرسنوي وبطليموس السابع الذين تكمل بهم الزخارف.
دار العبادة اليمنى كانت مكرسة لآمون رع أوزوريس ونقوشها تظهر الملك أمام ربات عديدة بما في ذلك حت-حور وإيزيس ونفتيس وحورس وأنوبيس وموت وآمون وغيرها وحين تغادر سور العيد البطلمي ينعطف يسارا شمالا إلى معلم غريب يعرف بــ الهوة العظمى وهى كبيرة حقا تزيد على 50 مترا (164 قدما) في العمق وتتسع 30 مترا (98 قدما) ونعتقد أنها كانت محاولة لحفر بئر كي يكون لدى دير المدينة مورد مياه سهل المنال. ولكن ما الداعي إلى حفر هائل كهذا؟ ماهي الضرورة؟ ولكن ليس هناك تفسير لضرورة عمل حفر هائل كهذا فقد كان الماء متوفرا على بعد مئات قليلة من الأمتار في الأرض الزراعية ويمكن نقله بسهولة على حمار. لم يكن البحث عن المياه ناجحا فقد وجد علماء الآثار الذين نقبوا هنا أن العمل قد توقف أو أن الحفرة قد ملئت بأطنان من الرمال والشقافة.

No comments:

Post a Comment